فإذا هوى القلب بقلم منال سالم
المحتويات
أجيبها
هز أباه رأسه متفهما
على بركة الله وربنا يكرمنا
قال عبارته تلك وتحرك من مكانه صوب الخارج فسأله ابنه بفضول
رايح فين يا بابا
الټفت ناحيته ليجيبه بحماس
هالحق الجلسة العرفية زمانتها هتبدأ!
قطب مازن جبينه متسائلا باهتمام
جلسة ايه دي
أشار له والده بكفه قائلا
بعدين هاحكيلك ركز انت في الشغل!
...............................
فضلت عمتها عواطف اصطحابها معها إلى منزلها لتستريح الاثنتان من عناء ذلك اليوم الشاق والمرهق.
اقتربت كلتاهما من البناية وهنا بدأت ملامح وجه أسيف تتبدل للتجهم والضيق. رجفة قوية أصابتها حينما وقعت عيناها على المدخل.
تسارعت دقات قلبها واضطربت أنفاسها وسريعا تجمعت العبرات في مقلتيها لتبدأ في النحيب والبكاء.
أشفقت عليها عواطف كثيرا وابتلعت غصة مريرة في حلقها متأثرة بها.
مسحت على ظهرها برفق محاولة التهوين عليها وأردفت قائلة بصوت شبه مخټنق
ادعيلها يا بنتي بالرحمة هي ما تتعزش على اللي طلبها!
أحاطتها عواطف
بذراعيها قائلة بتوسل
عشان خاطري يا أسيف بطلي ټعيطي بتقطعي قلبي!
لم تكن أسيف مصغية لتوسلاتها فهي في حالة تحسد عليها.
وما إن وطأت قدماها المدخل حتى شعرت بإحساس الفقد.
رغما عنها رأت أثار بقعة الډماء الجافة التي تتوسطه. إنها تخص والدتها.
وضعت يداها على أذنيها لتسدهما فصوت صدى صړاخ والدتها كان أخر ما سمعته منها.
كاد يصيبها بالصمم.
شعرت بذنبها وعجزها لأنها لم تستطع مساعدتها وتركتها بمفردها لتلقى حتفها.
نهج صدرها علوا وهبوطا وزادت رعشتها.
بكت عواطف هي الأخرى مشفقة عليها وضمتها إليها لتخبيء رأسها في صدرها فتبعد عيناها عنها.
تعالي يا بنتي!
سحبتها مجبرة نحو الدرج لتصعد كلتاهما للأعلى ومبعدة إياها عن تلك البقعة.
همست قائلة في نفسها بعزم
ربنا يقدرني وأعوضك عن غيابها واكون أمك التانية!
شعرت أسيف بخواء كبير في نفسها بعد إدراكها لحقيقة الوضع. لا أب طيب يعطف عليها ولا أم حنون تضمها إليها.
نعم الحياة لا تترك مكانا للضعفاء بل تسحقهم تحت وطأة قسۏتها اللامتناهية. هي عليها أن تتخطى أحزانها وأوجاعها وتعيد بناء نفسها من جديد.
وكما هو متبع في مثل تلك النوعية من الجدالات والخلافات الحادة أقيمت جلسة عرفية بداخل المقهى الشعبي لمحاسبة المخطيء وأخذ الحق منه.
وبالطبع لم يتوان الحاج طه في تغليظ مطالبه لكي يوصل رسالة صريحة إلى نده أنهم ليسوا بخصم سهل المنال.
وعلى مضض كبير جلس الحاج فتحي في مقعد منزوي بزاوية المقهى وإلى جواره رفيقه الحاج اسماعيل.
ظل مكفهرا عابسا تكسو نظراته الشعور بالعاړ والإنكسار.
فقد خسر تقريبا كل ما خطط له بل والأصعب من هذا أنه مطالب برد إعتبار من تجرأ عليها.
احتد بركان غضبه بداخله وكتم غيظه رغما عنه.
مال عليه الحاج اسماعيل ليهمس له بحذر
شوف إنت هاتخلص الليلة دي على ايه
نظر له الحاج فتحي من طرف عينه وأجابه بتأفف كبير
كمان طلعت الغلطان!
رد عليه الحاج اسماعيل بصوت خاڤت
كان لازم تحاسب على كلامك الناس دي شكلها مش سهل! وأديك شوفت بنفسك!!!
لم يرد عليه بل أشاح بوجهه بعيدا وهو يغمغم بسباب خفيض.
وفي الجهة المقابلة لهما جلس طه وابنيه وعدد من كبار المنطقة الشعبية كشهود عيان على ما سيحدث.
لم يرغب مهدي في التخلف عن الحضور فهو يتعلم في كل مرة يحضر فيها تلك الجلسات من حنكة طه وحكمته المتمرسة في إدارة الأمور لصالحه. ومسألة كهذه ربما تنفعه مستقبلا إن كشف أمر زواج ابنه الخفي من طليقة دياب السابقة.
ورغم أن منذر لم ينطق بالكثير إلا أن نظراته كانت مھددة بخطړ مهلك.
فإستعادته للمواقف الحادة التي جمعته مع الحاج فتحي جعلت متحفزا للفتك به دون سابق إنذار.
بدأت الجلسة ووصلت فيها المجادلات الاعتراضية والمشادات الكلامية بين الطرفين لأشدها فكل جانب متمسك برأيه ومصمما على كونه الصائب.
لم يتراجع الحاج طه عن تغليظ عقوباته ولا عن رد شرف قريبته عواطف. ودعمه الجميع في رأيه. فقد كانوا حاضرين للموقف منذ بدايته ورأوا مدى التطاول اللفظي والجسدي بالإضافة إلى الافتراءات الباطلة من ذلك الغريب. لذا كانوا حكاما معه في تقرير المناسب.
فتحت عواطف الباب دافعة ابنة أخيها للدخول وهي تقول بود
خشي يا بنتي ده بيتك!
تعثرت في خطواتها وهي تلج للداخل مطأطأة لرأسها.
كانت تلك هي زيارتها الأولى لبيت عمتها لم تره من قبل وتمنت لو زارته بصحبة عائلتها لكن كتب لها القدر أن
تجيء إليه بمفردها. بل أن يكون منزلها مؤقتا في الفترة القادمة.
انتبهت هي لذلك الصوت الأنثوي المتساءل بإندهاش
مين دي يا ماما
رفعت رأسها ناحية صاحبته لترى فتاة تقاربها في العمر تطالعها بنظرات متفحصة لها.
دنت بسمة منها ولم تبعد عيناها عنها متابعة تساؤلها
انتي مين
أجابتها عواطف بصوت متحمس وهي تحاوطها من كتفيها
سلمي على بنت خالك.. أسيف!
نظرت لها بسمة بضيق وعبست قائلة
أها.. هي دي! أهلا
تابعت عواطف قائلة بجدية وهي توميء بحاجبيها
أسيف هاتقعد معانا هنا على طول إن شاء الله!
هتفت بسمة مصډومة
هنا! في بيتنا
أكدت والدتها ما صرحت به قائلة بحسم
أيوه! وإن شاء الله تتبسط معانا
ضغطت بسمة على شفتيها لتضيف بامتعاض
أها.. طيب!
استشعرت أسيف من نبرتها عدم تقبلها لوجودها وشعرت بالحرج لكونها ضيفا ثقيلا عليهن.
لم تنتبه بسمة لما أصاب أمها في رأسها من الخلف فقد كان الچرح متواريا أسفل حجاب رأسها المتهدل واعتقدت أنها تركته على تلك الوضعية متأهبة لنزعه عنها.
حضرت نيرمين هي الأخرى متسائلة بتلهف
حصل ايه تحت يا ماما
اضطربت أسيف من وجود ابنتها الأخرى فقد تصادمت الاثنتان من قبل هي تتذكر تلك المواجهة فأخفضت رأسها متحاشية النظر إليها.
رمقتها نيرمين بنظرات مطولة منزعجة فهي لا تزال تحمل ضغينة في قلبها تجاهها.
هتفت عواطف قائلة بجدية
مش تيجي ترحبي ببنت خالك يا نيرمين! دي أول مرة تجيلنا و...
نظرت لها بحدة وقاطعت عبارة أمها مرددة بتجهم وهي توليها ظهرها
أنا رايحة أشوف رنا باينها صحت!
تأكدت أسيف في نفسها أنها لن تلقى ترحيبا في ذلك المنزل وأنها ستعاني من غربة أخرى موحشة لتزيد من تعاستها وبؤسها.
خلال الجلسة العرفية تم تغريم الحاج فتحي مبلغا ماديا طائلا كتعويض مؤقت عن إساءته.
هب واقفا من مقعده محتجا وثائرا
بحنق
كده كتير ليه يعني هو أنا غلطت في البخاري!!!!!
ضړب طه بعكازه الأرضية بصلابة ورد عليه بصوت صارم وهو ينتصب في جلسته
سمعة حريمنا ماتتقالش بالمال وده يعلمك تفكر قبل ما تكلم!
جذبه الحاج اسماعيل من ذراعه ليجبره على الجلوس قائلا بهدوء حذر
اقعد يا حاج فتحي احنا لسه بنتفاهم مع الجماعة!
جلس الأخير مجبرا وهو ينفث دخانا من أذنيه.
احتدمت المشادات مجددا ولم يجد هو بدا من الرضوخ لهم.
فاضطر أسفا أن يوقع على ورقة ما بهذا المبلغ أو ما يعرف بإيصال الأمانة ليقوم بسداده في فترة زمنية محددة.
أراد منذر أن يسترد حق اليتيمة المسلوب من هذا البغيض الذي أساء لها ببشاعة فاستطرد حديثه مرددا بثبات وهو يدير رأسه ناحية والده
اسمحلي يا حاج عندي حاجة عاوز أضيفها!
هز الحاج طه رأسه بالإيجاب مرددا بصوت رخيم
قول يا منذر!
استدار الأخير برأسه نحو الحاج فتحي وسلط عليه أنظاره القوية ثم تابع قائلا بصلابة مهيبة
عاوز حق اليتيمة اللي ملحقتش تحزن على أمها!
ثم تعمد رمقه بنظرات احتقارية قبل أن يتابع بازدراء
والحاج كان ناوي يسرقه غصبن عنها!
زاد تجهم وجه الحاج فتحي ورد عليه بعصبية بائنة مغتاظا مما قاله
نعم ده ايه ده كمان!!!
تابع منذر قائلا بصرامة شديدة
مالوش دعوة باللي يخصها من أملاك وورث ده حقها شرعا وقانونا!
استشاط فتحي من أسلوبه الحاسم المستفز له وصاح غاضبا وهو يلوح بذراعه
وانت بتكلم عنها بصفتك ايه فهمني حاشر مناخيرك معاها وآ....
تلك المرة قاطعه الحاج طه محذرا بشراسة
شوف لتاني مرة بأحذرك لسانك بيغلط!
زمجر الحاج فتحي هاتفا بنبرة محتقنة
ماهو مش أي هبل هيتقال والسلام وعاوزني أرضى بيه أنا مش لابس العمة وعاوزين تستغفلوني!
هدر به منذر بصوت مخيف ومهدد
لأ معلش أنا مش مچنون قصادك ولا بأقول هري على الفاضي ده شرع ربنا وحق اليتيمة واحنا مش
بنيجي لا على حق الولايا ولا اليتامى!
ثم نهض واقفا من مقعده واقترب منه بدرجة مخيفة ليحدجه بنظراته الساخطة وتابع قائلا بحزم يحمل الوعيد
واسمع مني الناهية هي مش تبقى بنت أخو الست عواطف يعني تبعنا واللي يدوس على طرف يخصنا مالوش دية عندنا!
شعر الحاج فتحي بالرهبة من تهديداته الصريحة وابتلع ريقه بتوتر شديد.
لم يتراجع منذر وظل باقيا في مكانه ليحدجه بنظرات أكثر شراسة.
هتف الحاج طه قائلا بصوت آمر
اقعد يا منذر واللي طلبته هايتنفذ!
تمتم الحاج فتحي قائلا بحنق
انتو عالم قادرة!
رد عليه منذر ببرود قاسې
بالظبط كده وربنا ما يوقعك معانا تاني ويكفيك شړ زعلنا..!
ثم أومأ له بعينيه ليشير إلى نفسه متابعا بتحذير شديد اللهجة
وخصوصا أنا!
عاد منذر ليجلس على مقعده المقابل له وظلت أنظاره القاسېة متعلقة به.
استمرت الجلسة لدقائق أخرى لوضع كافة الأمور في نصابها الصحيح وما إن انتهت حتى نهض الحاج فتحي على عجالة مرددا بمضض
بينا يا حاج اسماعيل أنا دمي فاير ومش طايق نفسي!
رد عليه منذر بابتسامة عابثة متعمدا إستفزازه
ما تستنى أما تشرب عناب يا حاج صدقني هيهديك!
صاح الحاج فتحي بنفاذ صبر
يالا يا حاج!!
تنهد بعدها منذر بعمق وهو يتابعه بنظراته المتشفية وثغره يعلوه ابتسامة منتصرة حتى انصرف تماما من المقهى.
رتبت عواطف غرفة ابنتها الصغرى بسمة لتكون ملائمة لأسيف لتمكث بها بمفردها خلال الفترة القادمة ومن أجل اعطائها مساحة من الخصوصية أثناء وجودها معها فلا تشعر بالحرج أو الخجل منها أو من ابنتيها.
شكرت الأخيرة عمتها قائلة بتهذيب متلعثم
كتر خيرك أنا.. أنا...
وقبل أن تكمل جملتها المترددة قاطعتها عواطف هاتفة بلطف
انتي هاتشكريني على ايه ده واجبي يا بنتي ارتاحي انتي بس دلوقتي ولو عوزتي أي حاجة ناديني! ماشي يا بنتي
ثم احتضنتها بود وقبلتها من وجنتيها ومسحت على صدغها وهي تبتسم لها.
بادلتها أسيف ابتسامة باهتة وقد لمعت عيناها بدرجة كبيرة.
أشارت لها عواطف بيدها متابعة
نامي يا بنتي وأنا هاجيبلك بيجاما من بتوع بسمة تغيري فيها
اعترضت أسيف قائلة بخجل
مافيش داعي أنا... أنا هدومي سيباها في اللوكاندة و...
ردت عليها عواطف بابتسامة مطمئنة
انتي بنتي دلوقتي فمتشليش هم أي حاجة ارتاحي بس ومتقلقيش أنا معاكي ومش هاسيبك!
بعد لحظات خرجت هي من الغرفة تاركة إياها بالداخل فأسرعت بسمة نحوها قائلة بتذمر وهي تنفخ بصوت مسموع
ذنبي ايه أطلع من أوضتي عشان دي!
رمقتها عواطف بنظرات مزعوجة من أسلوبها الفظ وردت عليها معاتبة إياها بغلظة
دي
متابعة القراءة